وها هي ذا تشعر بنفسها أفضل الآن ولو بعض الشيء وتحرر قلبها من عبئه، وأشرقت عيناها الداكنتان البديعتان. عاد وجهها المتورم إلى رونقه الطبيعي. ما إن اتكأت على العمود حتى قطبت حاجبيها السوداوين المقوسين وهي تحدق في الممر الذي يقود إلى الشارع وتسمرت نظراتها في هذا الاتجاه، ثم هبطت الدرج من الشرفة المرتفعة وتحركت نحو الممر الذي يؤدي إلى مجرى النهر.
تدفقت المياه بالقرب من أحد الدكاكين، تمر مسرعة لمسافة عشرة أمتار تقريبًا عبر الفناء في الهواء الطلق قبل أن تتوارى مرة أخرى تحت الجسر. عثرت كوموش على بقعة جميلة بالقرب من جدول المياه المكشوف هذا، وبقفزة واحدة أصبحت على الضفة الأخرى، وجلست هناك. حدقت عيناها بحزن إلى سطح الماء.
كان تيار المياه الغزير الشفاف والنقي يتدفق في انسياب وسلاسة، وما إن يصل إلى موضع كوموش حتى تتدفق الأمواج الصغيرة إلى أعلى وكأنها تعلن عن حبها واحترامها للفتاة. كانت المياه عندما تصل إليها تدور ببطء في دوائر، متوهجًة ومحتفية بسحرها وجمالها، ثم تمتد إلى أبعد من ذلك في حلقات أكبر– فتجعل من انعكاس سحرها أكثر وضوحًا لمحبيها- ثم سرعان ما تعود لتنساب ببطء وتتوارى تحت الجسر.
أخذت الفتاة تحدق طويلًا في هذا التدفق اللامتناهي للمياه، ثم مدت يدها لتأخذ حفنة منها وترطب بها وجهها. أخذت بضع قطرات من المياه العالقة تقبل وجهها ثم تسقط ثانية في الجدول. وعند سقوطها بدت وكأنها قد منحت الماء حيوية وصفاء وحياة كاملة. ومن جديد تنشط المياه في الجدول الصغير وتندفع في قلق كمن يخشى مؤامرة تحاك حوله. وبعد حفنتين أو ثلاث من المياه وصلت حماسة الجدول إلى ذروتها.
شعرت كوموش بالتعب في قدميها الرقيقتين النحيلتين ومررت الماء على أسنانها الناصعة بلون اللؤلؤ مرتين أو ثلاث مرات أخرى، ثم غادرت ضفة النهر.
استعادت بعضًا من خفة قلبها، وعادت إلى المنزل عبر الممر. أصبح قوامها ممشوقًا أكثر، وسيرها أكثر رشاقة. لاحظت عائشة هذه التغيرات على ابنتها فصاحت في سعادة: "هل تشعرين بتحسن الآن يا ابنتي؟"
"الحمد لله، الآن أفضل."
"ابنتي، كفاك. لا تقومي بأي شيء، استريحي."
***
كانت أيام الشتاء قصيرة لدرجة أنه بالكاد يمكن للمرء أن ينجز أي شيء قبل غروب الشمس. وبدا ذاك اليوم أقصر من أي يوم آخر فها قد مضت نصف ساعة تقريبًا منذ وصل الضيوف. استقبلهم قوتيدار ورحب بهم ترحيبًا حارًا كعادته. كانت السفرة بها ما لذ وطاب من الأصناف الشهية جميعها. تنقلت تويبكة بين جناحي الرجال والنساء في المنزل وهي تقدم أطباق الطعام والمرطبات، وتبدل مفرش المائدة، وتقدم الشاي. وبعد أن وجدت فرصة للراحة، جلست بالقرب من أفتاب آيم لتأكل مما تبقى من طعام الضيوف.
سألت أفتاب آيم تويبكة: أجيبيني بصراحة من هؤلاء الضيوف؟ هل تعرفين أحدًا منهم؟