قال في قلق: إن سيدي ليس على ما يرام، وحزم أمره وأمسك بمقبض الباب وهم أن يدخل على أتابك، لكنه سحب يده من على المقبض وهو يفكر: ربما لا يكون مريضًا. وقف مرة أخرى في حيرة من أمره، تنازعه نفسه إلى الدخول كي يطمئن، لكنه حاول كبح جماحها، فعاد إلى حجرته. لكن قلقه على أتابك بحلول هذا الوقت كان قد تضاعف عشرة أضعاف. فعلى الرغم من أنه بدل ملابسه وآوى إلى فراشه، لاحت أمام عينيه صورة سيده، ولم تسمح له بإغلاق جفنيه. بدأت تراوده الأفكار والهواجس، ويتردد في رأسه ما أمره به يوسف بك حاجي: "إن ابني لا يزال فتى صغيرًا، أما أنت فقد عشت حياة طويلة ورأيت الكثير وتعرف الكثير. وأنت مخلص لي أيما إخلاص. لذا فمهمتك الأساسية هي رعاية ولدي". وتتردد في أذنيه مرارًا وتكرارًا وصية والدة أتابك "أوزبك آيم" الممزوجة بالدموع: "لقد عهدت بك إلى المولى تعالى، وبابني إليك". وهكذا تلاشى النوم من عينيه تمامًا. نهض حسن علي من فراشه وارتدى الشابان>(>16>) فوق ثياب النوم، وغادر غرفته، وجلس مرة أخرى بجانب حجرة أتابك.
كان الليل شديد البرودة، وكانت الريح الباردة تهب من الجهات جميعها وتتسلل إلى عظامه. جلس حسن علي شبه عارٍ، يرتعد من البرد. جلس غير مبالٍ ببرودة الجو وارتجاف جسده، مركزًا كل أفكاره إلى حجرة أتابك. أخذ يسترق السمع لبعض الوقت للأصوات الآتية من الداخل، ثم أخذ نفسًا عميقًا وابتعد عن الباب، وبعد أن سمع صوت أنفاس أتابك تخرج هادئة، تنهد بارتياح. على الرغم من أن هواجسه القلقة بدأت تتلاشى تدريجيًا، فإنه ولسبب ما لم يتحرك من مكانه، بل ظل جالسًا منكفئًا على نفسه من البرد. مر بعض الوقت وهدأ أخيرًا وكان على وشك المغادرة، عندما سمع من داخل الحجرة ما يشبه تمتمة نائم: "عيون سوداء، حاجبان كالهلال".
قال حسن علي: "آه"، ثم ألصق أذنه مرة أخرى بالباب. أصبح كله الآن آذانًا مصغية، وأصبح تركيزه كله موجهًا إلى الحجرة وإلى من بداخلها. لم يمضِ وقت طويل حتى استُؤنِفت التمتمة مرة أخرى: "وجه كوجه القمر، ونظرة مبتسمة، تهرب في خجل.. أواه".
تبددت مخاوف حسن علي الأولى جمعها حينما سمع تلك العبارة الأخيرة. وهنا أدرك أنه لا داعي لبقائه في البرد أكثر من ذلك، فقام من مكانه، ودخل حجرته وهو يهز رأسه ويقول في نفسه: – إن سيدي قد وقع في الحب.
فرش حسن علي سترته على فراشه، وتدثر باللحاف، وراح يحاول الإجابة عن هذه الأسئلة: "هل حقًا وقع سيدي في الحب؟ وأين تراه قد رأى فتاة في مدينة غريبة؟ ومن تكون يا ترى تلك التي وقع في حبها إلى هذه الدرجة، حتى يهذي بها في نومه؟"
حاول النظر في هذا الأمر من تلك الزاوية؛ فقد شكك في المشاعر التي استحوذت على قلب أتابك. لكنه من ناحية أخرى تذكر تلك الكلمات التي كان يتمتم بها في نومه: "نظرة مبتسمة، تهرب في خجل"، ولم يستطع أن يفسر تلك التغيرات الدرامية التي طرأت على البك في الأيام الماضية سوى بوقوعه في الحب ولا شيء سواه. أخذ الرجل العجوز يوازن بدقة بين تخميناته المختلفة. وعلى الرغم من أنه لم يكن واثقًا في حقيقة وقوع سيده في الحب، الا أن كلماته تلك "نظرة مبتسمة، تهرب في خجل"، كانت تتردد مرة بعد مرة في ذهنه. كان الليل يتراجع تدريجيًا قبل حلول الفجر، وبدأ النعاس يتسلل إلى حسن علي الذي تعب من كثرة محاولاته اليائسة لحل هذه المسألة. في النهاية قرر أن يعرف كل شيء من البك نفسه في اليوم التالي، وبعد أن هدأت نفسه خلد إلى النوم.